ا.د. إبراهيم مرجونة .. يكتب: السيد رامبو .. مرآة الإنسان المفقود

شاهدت منذ بضعة أيام فيلم “رحلة البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو“. وهو عمل اكثر من رائع
واللافت للنظر أنه عمل روائي رائع ظهر في وسط زحام من التردي والتفهات وغياب الفكر والرؤى في معظم الأعمال.
يقدم المخرج خالد منصور رؤية سينمائية عميقة لشخصية حسن، الشاب البسيط الذي يعيش في قلب القاهرة الشعبية، مشدودًا بين عذاب المدينة وضغوط الحياة اليومية، ومحاولًا حماية صديقه الوفي الكلب رامبو من بطش جاره البلطجي.
ليست القصة مجرّد رحلة لحماية حيوان، بل رحلة إنسانية تعكس صراع الإنسان مع واقعه وظروفه الصعبة.
رامبو ليس كلبًا عاديًا، بل هو امتداد لحسن ونظيره الحي في هذه الحياة المعقّدة. يمثل الكلب في الفيلم ملامح عديدة لشخصية حسن، من البراءة والوفاء إلى الشراسة في لحظات الدفاع والبقاء، العلاقة بينهما تتخطى حدود الرفقة البسيطة، إذ يشكلان جوهرًا متكاملاً يصور كيف يمكن للإنسان أن يجد في حيوانه ملجأ ومرآة تعكس وضعه النفسي والاجتماعي. كما أن رامبو، رغم كونه كائنًا حيوانيًا، يجسد في تعدد أدواره البُعد الإنساني ذاته، ويلقن صاحبَه دروسًا غير معلنة عن الصبر والشجاعة والمقاومة.
يستثمر الفيلم الخلفية القهرية لمدينة القاهرة ككيان حي بحد ذاته؛ المدينة المعتمة، حيث الأزقة الضيقة والأضواء الخافتة تصبح جزءًا من الكابوس الذي يعيشه حسن ورامبو معًا. من خلال كاميراته، يرسم الفيلم مشاهد قاتمة متقنة تظهر المدينة بكل قسوتها، وهذا بخلاف القاهرة الأخرى المضيئة ذات الألوان المبهجة فهى ليست لحسن وأمثاله ، مع استدعاءات بصرية مشهودة من فيلم “الحريف” التي تتخلل المشاهد أحيانًا، لتعزز الإحساس بالتورط بين الماضي والحاضر، وبين الإنسان والبيئة التي تضغط عليه بلا هوادة. والقسوة والتهميش حتى وإن أمتلك المهارات ، كذلك تأتي بعض المشاهد متأثرة بحالة الرعب والاضطهاد الكامنة في فيلم “الغول” لتضيء على مدى الضغط النفسي والعنف الذي يختبره البطل.
لا يمكن إغفال الدور الموسيقي الذي لعبته أغنية محمد منير “شجر الليمون” في الفيلم. ليست هذه مجرد أغنية تم اختيارها عشوائيًا، إنها طبقة إضافية من الإحساس صاغتها كلمات تقول:
“كل شيء بينسرق مني
العمر من الأيام
والضي من النني”
هذه الكلمات تسكن أعماق حسن ورامبو، تعكس شعورهما بالدونية والضياع في مدينة تسلب منهما الملكية على الزمن والراحة. الأغنية تكاد تكون صوتًا داخليًا ينطق بمرارة من يلتمس منفذًا للخروج من حياة متشابكة بالظلم والاختناق. ويزيد من صعوبتها غياب الأب الظهر والسند وجاء زي العمل لحسن الذي كان يعملا أمن Security ضاع من الرداء كتير من حروف الكلمة دليل على غياب الأمن والطمأنينة فهو في غربة واغتراب في عمله وحتى المسكن مهدد دائماً من سطوة وسلطة البلطجي الذي لا يرى أمامه إلا طرد حسن وأمه من المسكن لإقامة مشروعه، وهذا يعكس تصدع وانهيار وغياب قيم ومبادئ كانت راسخة في الأحياء الشعبية من بينها حرمة البيوت وحماية الضعيف ،وهذا يرصد كثير من المتغيرات التي طرأت على المجتمع وزادت الكادرات المظلمة.
الكادرات المتقنة تكشف عن وحدة عميقة بين الإنسان والكلب، عبر مشاهد الانعكاس في المرايا، اللحظات التي يشارك فيها حسن ورامبو المناعة والشراسة، حيث يصبحان وجهين لذات واحدة، توحدهما المعاناة والرغبة في الحماية والنجاة من بيئة عدائية.
وعندما ضاقت عليه الدنيا وتمكن من إنقاذ رامبو من القتل عندما أخذته سيدة من القاهرة المضيئة وستسافر به إلى كندا خاطب حسب كلبه خطاب وكأنه هو من كان يمني نفسه بهذه الهجرة ليحيا حياة بعيدة عن القسوة والتهميش والضغوط النفسية والاجتماعية والاقتصادية.
الفيلم بكل تفاصيله يحمل رسالة اجتماعية حساسة عن الواقع القاسي للفقراء والمهملين في القاهرة. رحلة رامبو وحسن ليست فقط من أجل البقاء، بل بحث عن كرامة ضائعة، عن منفذ للخروج من خلف القضبان الاجتماعية والنفسية. ولاء حسن لرامبو ورامبو لحسن يكشفان عن عمق الإنسانية في مواجهة القسوة، وعن قدرة الأمل والصداقة على خلق مساحات من النور وسط الغموض والظلمة.
رحلة البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو ليست مجرد فيلم عن كلب وشخص يتحملان صعاب الحياة، بل هي لوحة فنية متقنة تمزج بين الأداء التمثيلي الرائع، التصوير السينمائي الدقيق، والموسيقى التي تخترق الروح، لتقدم رؤية إنسانية شاملة، تأخذ المشاهد في غمار تجربة ميدانية وشخصية متشابكة، تدعو للتأمل في معنى الوجود وسط عالم يعصف به الفقر والظلم الاجتماعي.
وتبقى نهاية الفيلم مفتوحة على تأملات عميقة حول مسار الصراع في المجتمعات المهمشة، حيث أن البحث عن منفذ للخروج من الواقع المؤلم ليس مجرد قرار لحظي، وإنما رحلة مستمرة يتخللها الألم والأمل، القوة والضعف، الحب والخذلان.
هذه النهاية تترك أثرًا دراميًا يصوغ تجربة الفيلم ككل، معبّرة عن التماهي النفسي والوجودي بين حسن ورامبو، بين الإنسان ومرآته الحيوانية، وبين الفرد والمجتمع الذي يحاصره.
وأخيرًا، هذا العمل يدفعنا للتفكير في المجتمع ككل كمكان يمكن أن يتحول إلى فضاء أفضل إذا ما تضافرت الجهود وأوجدت مناخاً من العدالة والدعم المتبادل.
بهذا يتجلى التفاؤل في القدرة على الصمود، في قوة الروابط الإنسانية، وفي إمكانية خلق منفذ للخروج حتى من أكثر الأوضاع كآبة.
اقرأ أيضاً: ا.د ابراهيم محمد مرجونة .. يكتب : العنف في المجتمع ونداء الإصلاح
اقرأ أيضاً: مصطفى عثمان .. يكتب: أول الغيث .. ومازلنا ننتظر الكثير ..






